بقلم / د. سعد الدين إبراهيم .. الجملوكيات مُجدداً: ما سر كل هذه الكراهية؟

بقلم د. سعد الدين إبراهيم ٢٥/ ٩/ ٢٠١٠

بدأت الكتابة فى «المصرى اليوم» منذ أسبوعها الأول قبل سبع سنوات. وعادة، ما أتلقى تعليقات القرّاء الكرام على ما أكتب، والتى تتراوح ما بين التفريط، والنقد، والتجريح. ولكن خلال الأسبوعين التاليين لنشر خبر «تأييد ائتلاف دعم جمال مُبارك» (الأهرام ٣٠/٨/٢٠١٠ و٣١/٨/٢٠١٠)، لم أتلق من القرّاء، ومن كل من قابلتهم إلا الاستهجان، والاستنكاف والاستنكار.

وتراوحت ردود الفعل فى مضمونها بين من اعتبرها «كبوة»، ومن اعتبرها «سقطة»، ومن اعتبرها «صفقة»، ومن اعتبرها «خيانة».

ورغم قسوة التعليقات على شخصنا المتواضع، فإنها كانت كاشفة عن شمول الغضب من النظام القائم، وجمال مُبارك.

وكمهموم بالشأن العام، وكمواطن، وكمُشتغل بعلم الاجتماع السياسى كمهنة، فقد طرحت البُعد الشخصى البحت جانباً، وتفرغت لتحليل مضمون التعليقات التى وردتنى بريدياً وإلكترونياً، أو استمعت إليها فى لقاءات لىّ بالمصريين فى الخارج، ومنهم مجموعة فى واشنطن (٥/٩/٢٠١٠) عقدت ما يُشبه المُحاكمة، لعدة ساعات قاد الادعاء فيها الزميلان كمال الصاوى وعُمر عفيفى. وبداية وللمرة الثالثة، أوضح وأؤكد أننى لا أؤيد جمال مُبارك، ولا حسنى مُبارك لأى منصب عام، ولن أنتخب أياً منهما فى حالة ترشحهما، وليس هذا الموقف لأسباب شخصية، ولكن بسبب سجلهما فى العمل العام، والذى تجاوز ثلاثين عاماً بالنسبة للأب (منذ كان نائباً للرئيس عام ١٩٧٥)، وتجاوز عشر سنوات، بالنسبة للابن (منذ أصبح أميناً لأهم لجان الحزب الوطنى عام ٢٠٠٠، وهى لجنة السياسات). ففى عهدهما تحولت مصر إلى دولة بوليسية، وتدهورت مكانتها الإقليمية والدولية، وامتهنت كرامة المصريين فى الداخل والخارج، وساد الاستبداد، وعم الفساد فى عموم البلاد.

ولمن لا يعلمون، أذكّرهم بأننى أول من حذّر المصريين والعرب منذ شهر يونيو ٢٠٠٠ ضد التوريث، أى قبل عشر سنوات. وقد فعلت ذلك علناً، على رؤوس الأشهاد، فى قمة المُشاهدة التليفزيونية، لجنازة الرئيس السورى الراحل حافظ الأسد، من قريته «قرداحة»، قرب اللاذقية فى سوريا. وحينما فعلت ذلك على قناة أوربت، مع الإعلامى عماد أديب، ذكرت الأقطار المُرشحة لتوريث المنصب الرئاسى من الأب للابن وهى سوريا، والعراق، واليمن، وليبيا، ومصر. كما ذكرت الأبناء بالاسم ومنهم جمال مُبارك، وسيف الإسلام القذافى، وأحمد على عبدالله صالح، وعُدى صدام حسين. وقلت وقتها إن الذى سينقذ الجزائر وتونس من نفس المصير، هو أن رئيسيهما لم يُنجبا أولاداً ذكوراً!

ولم تكن صُدفة، أنه بعد ذلك بأيام ألقى القبض علىّ، ثم حوكمت أمام محاكم أمن الدولة، وتمت إدانتى فى قضية مُلفقة، بالسجن سبع سنوات، فظللت فى السجن ثلاث سنوات إلى أن تمت تبرئتى بواسطة أعلى محاكم الديار المصرية، وهى محكمة النقض (١٨ مارس ٢٠٠٣).

فلا يُعقل، والأمر كذلك، أننى أؤيد انتخاب أى من آل مُبارك. ولكن رفضى لانتخاب آل «مُبارك»، لا يعنى رفضى لمبدأ «حق» أى منهم أن يُرشح نفسه، فهو حق يحميه الدستور المصرى، رغم كل عيوبه، فضلاً عن مواثيق حقوق الإنسان.

وشتان ما بين مبدأ الترشح الذى هو حق سياسى لأى مواطن من ناحية، وتأييد شخص المُرشح من ناحية أخرى. لقد كنت من أول دُعاة حقوق الإنسان، وكنت مؤسس وأول أمين عام للمنظمة العربية لحقوق الإنسان. فلا يُعقل والأمر كذلك، أن أنكر هذا الحق على أى إنسان، مهما كانت خصومتى السياسية معه أو مع أبيه.

إن استخدام أصحاب حملة ترشيح الابن، لموقفى المبدئى لحق الجميع، بمن فيهم ذلك الابن، كما لو كان تأييداً له، لهو الضلال والتضليل بعينه، وهو دليل على الإفلاس السياسى والتهافت الأخلاقي. وإنى لأرجو أن يكون هذا قولاً فصلاً ونهائياً فى الموضوع، حتى نتفرغ لما هو أهم وطنياً، وعربياً، وعالمياً.

من ذلك أن الأيام السابقة واللاحقة لتلك «الزوبعة الفنجانية»، شهدت سجالاً عنيفاً حول قيم ومُمارسات أساسية فى المجتمع الأمريكى، وكان الإسلام والمسلمون فى قلبها. وكان رمز هذا السِجال شخصين أمريكيين: أحدهما رجل دين مسيحي، اسمه تيرى جونز، وهو قس لكنيسة صغيرة، لا يتعدى أعضاؤها خمسين شخصاً، وتقع فى مدينة جينزفيل بولاية فلوريدا. ولم يكن أحد خارج أتباعه الخمسين، قد سمع به أو بكنيسته، التى أطلق عليها اسم «حمامة العالم». ولكن إعلانه أنه سيحرق ما يستطيع تجميعه من نسخ المصحف الشريف، فى ذكرى تفجير برجى مركز التجارة العالمى (١١ سبتمبر)، جذب اهتمام وسائل الإعلام الأمريكية، ثم بعدها وسائل الإعلام الدولية. ويبدو أن هذا ما كان يقصده القس تيرى جونز، لكى يجذب الأنظار والأنصار إلى كنيسته المغمورة.

أما الحدث الثانى، فقد تركز على مشروع بناء مركز إسلامى فى نيويورك، على مسافة نصف كيلومتر من موقع مركز التجارة العالمي، الذى شهد الانفجار الأشهر فى التاريخ (١١/٩/٢٠٠١)، منذ القنبلة الذرية على هيروشيما عام ١٩٤٥. اعتبر بعض الأمريكيين ذلك استفزازاً لمشاعرهم، خاصة أقارب بعض ضحايا ذلك التفجير، وهم حوالى ثلاثة آلاف ضحية. أما الذى كان قد تصدّى لإقامة المركز فهو الشيخ فيصل عبدالرؤوف، إمام أحد مساجد نيويورك، وهو مواطن أمريكى مسلم، من أصل مصري.

ولأن الحدثين، خطة إحراق المصحف وخطة بناء المسجد، تزامنا مع قرب الذكرى التاسعة لتفجير مركز التجارة العالمى (١١/٩) فقد كان السِجال حولهما انفعالياً للغاية. ودخل السياسيون الأمريكيون على خط السِجال، خاصة أن الانتخابات النصفية على الأبواب (٤/١١/٢٠١٠)، ما بين مؤيد ومُعارض.

وللإنصاف، فإن الرئيس باراك أوباما، ونائبه جوزيف بايدن، ووزيرة الخارجية هيلارى كلينتون، وقائد القوات الأمريكية فى أفغانستان، وغيرهم من كبار الشخصيات العامة، أدانوا خطط القس تيرى جونز لحرق نُسخ المصحف الشريف. كذلك فعل نفس الشيء مُعظم ضيوف البرامج الحوارية فى شبكات الإذاعة والتليفزيون. ولكن أحداً من المسؤولين لم يدع إلى استخدام القوة لمنع القس تيرى جونز من الإقدام على ما كان ينويه داخل كنيسته هو وأنصاره الخمسون. ولكن فى مواجهة الحملة المُضادة من مشاهير المجتمع الأمريكى، تراجع القس عن خطته المستفزة لمشاعر المسلمين فى أمريكا، وحول العالم.

أما بالنسبة للسِجال حول المركز الإسلامى قُرب مركز التجارة العالمى، فإن الشيخ فيصل عبدالرؤوف قد أدار المعركة بحصافة شديدة. فقد حشد كبار القيادات الدينية المسيحية واليهودية، وعُمدتى نيويورك السابقين لتأييد خطة بناء المركز الإسلامى، الذى اقترح هو أن يضم كنيسة مسيحية وكنيساً يهودياً، كرمز لتآلف «الرسالات الإبراهيمية» الثلاث. وهى فكرة قريبة مما كان قد اقترحه الرئيس الراحل أنور السادات، قرب دير سانت كاترين، بسيناء. كذلك كان الرجل موفقاً للغاية فى مُقابلة تليفزيونية طويلة مع المُحاور اللامع لارى كينج على أهم شبكة إخبارية أمريكية وهى «سى. إن. إن» «CNN». فقد أجاب عن الأسئلة بوضوح وبساطة واعتدال. وأظن أنه كسب تعاطف ملايين الأمريكيين الذين شاهدوه. وكان ضمن ما قاله، أنه لو حسب أن المشاعر ستتحد حول الموضوع، لما خطط له على نفس النحو.

وبعد ذلك بيومين ظهر السينمائى الشهير «مايكل مور» على القناة نفسها «سى. إن. إن»، لا فقط مؤيداً لبناء المركز الإسلامى قرب موقع مركز التجارة العالمي، بل على نفس الموقع، إمعاناً فى تأكيد أفضل ما ينطوى عليه نظام القيم الأمريكي، وهى حُرية العقائد، وتعايش الجماعات العرقية، والتسامح. وتبرع بعشرة آلاف دولار لمشروع المسجد، وأعلن أنه سيقوم بحملة تبرعات للمشروع.

وقد خفت حدة السِجال، ولكن بعد أن تراجع القس تيرى جونز عن إحراق المصحف، وبعد أن صمد الشيخ فيصل عبدالرؤوف فى قرار بناء المسجد. المهم أن هذا وذاك حدث بشكل سلمى ملحوظ. فلعلنا فى مصر المحروسة نقتدى بذلك فى حواراتنا حول بناء الكنائس والمعابد لغير المسلمين. فقد دار السِجال لا على مبدأ بناء المسجد، الذى أقر جميع المتحاورين أنه حق دستورى مضمون، ولكن فقط على موقعه. وحينما سُئل الرئيس أوباما عن الموضوع، فإنه أكد ليس فقط حق أى مواطن أمريكى فى بناء دار عبادته، ولكن أيضاً حقه فى اختيار موقع البناء.

والله أعلم

semibrahim@gmail.